من طرف ضباب .. ضباب كثيف يغطى المكان .. أكاد أرى يدي المرتجفة من شدة برودة المكان .. فرفعت يدي لأزيد من إحكام دوران ذلك الشال حول عنقي .. ورفعت خنجري .. معجباً بحدته .. وانسيابه .. مشمئزاً من تلك الذكريات التي جمعتني به .. والتفت إلى الخلف لألمح بصيص من الضوء في السماء بعد ذلك الليل الحالك .. أحسست وكأنه سيدوم للأبد.. ولكن .. ها قد أتى الفجر .. ودلفت إلى أذني أصوات خافته .. فأخذت أدير بصري فى المكان .. فتمرق عيناى بين تلك المباني الشبه مدمره .. والتى من كثرة وجودى بينها .. أصبح ما أراه صورة محفوره بداخلى .. وكأننى أحد أحجارها المتراميه .. ولم العجب وأنا فى خندقى هذا لثلاثة ليالى متواصلة لم أخرج منه .. ولم تطأ قدماى ما هو خارج تلك المنطقة ......
وبينما اعدل من وضع جلوسى .. تذكرت بعض الذكريات .. ذكريات جمعتنى بتلك البنايات .. ولكن لم تكن على تلك الحالة المذرية .. فقد كانت قائمة .. تنظر للسماء فى شموخ .. وخاصة تلك البناية ..وبينما تنظر عيناى لها فإذا بالدماء تتدفق في عروقي .. وامتلأ قلبي بالأمل في لقاء تلك الفتاة لأتحدث معها .. فقد صبرت طوال ذلك الليل حالماً ببسمتها .. آه يا قلبي .. كم هي جميلة !! إن لم يكن قلبي بالمكان الذي يكفيها .. فعيناي.. كل ما أملك لا يبخل عليها بالحب .. يكاد يتمزق قلبي كلما شعرت بأنها محاطة بالخطر من كل جانب .. فبمجرد سماع صوت طائرة .. يظل قلبي مهتاجاً ملتاعاً خيفة من أن يصيبها مكروه ..
قطع تلك الذكريات صوت ... فالتفت لأدرك مصدر الصوت .. فإذا به صوت خطوات تخطوها طفلة صغيرة بأقدام خشنة .. تركض فوق الحطام .. خطوات مضطربة سريعة تضرب الأرض فى رقة متناسية تلك الشظايا والدماء المتراميه فوق جنبات الطريق.. ارتسمت على شفتيها ابتسامه هادئة .. ولم تفارق عيناها عيناي .. فإذا بها في لحظات تصل إلى .. وتمد إلى يدها المرتجفة حامله زجاجه مياه .. فارتشفت منها بعض قطرات من الماء .. وكأن قطرات الماء تشق طريقها فى جسدى بصعوبه .. وكأن شراينى قد جفت من قلة الماء .. بينما تعبث يدي الأخرى الخشنة بخصلات شعرها الرقيقة .. وفجأة ....
سمعت هدير محرك يرتفع مقترباً من المكان .. فتنبهت .. وخفضت رأسي في سرعة .. وما هي إلا لحظات .. حتى علمت بالأمر .. عربة عسكرية جاءت لتأمين تلك البنايات .. وهبط منها ضابط وجنديان .. وإذا بالضابط يأمر الجنديين بأن يقتلا كل من يجداه حياً في تلك البنايات .. حتى يتم تأمين الحي بأكمله ..!!!!
فأدرت رأسي بسرعة باحثاً عن قلم .. ووقعت عيني على الطفلة الصغيرة .. لا أعلم بما شعرت تلك الطفلة الصغيرة .. ولكنه خوف جم .. تكاد تنطق به عيونها .. وإذا بها تجلس وتضع رأسها بين أرجلها .. فشعرت بحنان جارف نحو تلك الصغيرة .. فاحتضنتها .. وأخذت اربت على رأسها الصغير .. لتهدأ .. وضعت خنجري في ذلك الحزام المشدود حول ذراعي .. وأخذت القلم .. وكتبت بأقصى سرعة .. كتبت كلمات من شأنها ان تقال بين جنبات حديقة مزهرة .. كلمات تسمعها النسائم فتحملها لتصل بها إلى مسامع القمر لتخبره بمدى شوقى وحسرتى وخوفى .. وبعدما انتهيت .. منحت تلك الطفلة رسالة .. وهمست في أذنها بأن تمنح تلك الرسالة للفتاه .. واتفقت معها على خطه للتخلص من الجنديين .. وفى لحظات تحركت أقدامى في سرعة رهيبة .. منطلقاً لتلك البناية تاركاً الطفلة بالرسالة بعد أن وضعتها بيدى في أحد جيوبها الممزقة .. إلى أن وصلت إلى غرفة مظلمة تماماً .. وقد كانت تلك الغرفة تسبق الغرف التى يستقر بها الأهالى .. فدخلتها وأغلقت الباب خلفى .. وأحكمت غلق جميع منافذ الضوء فى الغرفة...
وساد الصمت لبعض لحظات .. حتى شق صوت خطوات الجنديين ذلك الفجر الناعس .. وتعذبت أذناي بصعودهما خطوه بخطوه .. ولكن ما فارقتني صورة أمى وأبى بعد أن افترسهم تلك الذئاب البشرية برصاصاتهم الهوجاء فى أحد المعابر بلا جريمة أو ذنب.. والدماء المسالة من جسد من أحب .. فتحول ذلك الطير المفزوع المعذب بداخلي لنسر جارح مملوء بالعدوانية ليفتك بفرائسه .. وازداد تحفزى ....
وها قد أتت اللحظة الهامة .. وإذا بيد تفتح باب الغرفة المظلمة في خوف .. ودلف الجنديان إلى الداخل .. وفى لحظة .. أغلق الباب .. أغلق على ثلاثتنا ....!!
فاستغللت تلك المفاجأة للجنديين .. وغرست خنجري في عنق الأول ..ونزعته فى سرعة .. فانطلقت منه صرخة ألم مريعة .. وخر صريعاً .. فانتفض لتلك الصرخة قلب الجندي المتبقي .. وكأنها أشعلت فتيل جنونه .. وأخذ يطلق رصاصات عشوائية في مختلف أنحاء الغرفة .. ثم .. ساد الصمت مره أخرى ...
وفجأة وضعت خنجرى فى قلبه محكماً المسك به كى لا أخطئ ..واختلط صوت ذلك الخنجر المغروس في عنق الجندي بصوت آخر الطلقات المتبقية في سلاحه .. وسقط الجسدان .. وسالت الدماء بغزارة في الغرفة .. ولاحت فى الأفق صورة ملاك يحمل ملامح تلك الفتاة الجميلة .. فابتسم الشاب .. وسقط رأسه لترتطم بالأرض فى قسوة ..واضعاً يده فى مكان تلك الرصاصة ....
وإذا بالطفلة تخرج رأسها بهدوء .. وأخذ يترنح جسدها الصغير يمنة ويساراً .. إلى أن وصلت الطفلة إلى غرفة الأهالي .. فتحت عليهم الباب .. فارتعد الأهالي بشده .. فإذا بها تبتسم في هدوء.. وذهبت مسرعة لتمسك بيد تلك الفتاة التي كلمها عنها الشاب .. ثم أدارت رأسها مشيرة للأهالي بأن يتبعوها ...
وفى لحظات .. هبط الأهالي جميعاً .. ودلفوا في أحد الشوارع .. فإذا بسيارة تقف عندها وبها شابان مرتديان شالاً مشابه لما كان يرتديه الشاب الأول فركبت الأهالي السيارة .. وبينما تدخل الفتاة السيارة .. استوقفتها الطفلة ..!! ثم مدت يدها في ثناياً ملابسها .. ولكن!!!!!
خرجت يدها بلا شيء .. فإذا بالطفلة تضطرب .. ثم نظرت إلى الفتاة .. وابتسمت في براءة لتكمل صعودها .. وكأن شيئاً لم يحدث .. وانطلقت السيارة .. ليلتهمها الضباب ….. نعم !! .. ليلتهمها الضباب بالكامل ....
