من الذي قتل
أحلام أحمد ؟؟
عندما عرفت أحمد كان طالباً في كلية الهندسة ,
وكان يكبرني ربما بأربع سنوات ...
شابٌ تجري الدماء في عروقه كاليخضور يسري في
النبات , رياضيٌ احترف بعض ألعاب القوي , ذكيٌ في مجال دراسته ولكنه –
إحقاقاً للحقِ – لا يعرف شيئاً سواه.
منذ عام
دراسته الجامعية الأول راوده حلم التخصص في هندسة الصواريخ , أخذ يقرأ
ويجمع المعلومات من الإنترنت ويبتاع كل ما يجده في هذا المجال ...
قال لي إن مصر قد أنتجت بالفعل بعض الصواريخ
بعيدة المدي في عصر عبد الناصر , وقد استعان بعلماء ألمان لتطويرها...
ثم ؟ تمت تصفية معظمهم برسائل مفخخة من
الموساد .
يعود أحمد ليستمع إلي خطابات عبدالناصر ,
ينفعل , تصعد الدماء إلي رأسه , يخفق شريانه الصدغي وتتورد جبهته عند
الكلام عن العروبة وعن الاستعمار ...
أحمد يقرأ عن الخديعة الناصرية , ثم يقرأ عن
النكسة فيشتاط غضباً , أحمد يقول إن عبد الناصر قد ورطنا في نكسة لم نُفِقْ
منها حتي الأن , لقد كان شراً وبيلاً بقوميته العفنة .
قلت له أنت تعيد اختراع العجلة !
أحمد يسمع بعض خطب السادات , السادات يقول "
العين بالعين والسن بالسن والنابلم بالنابلم " ,
السادات يقول " العمق بالعمق وصواريخنا من
طراز ظافر قادرة علي الوصول إلي أعماق الأعماق في إسرائيل "...
أحمد ينفعل , تصعد الدماء إلي رأسه , يخفق
شريانه الصدغي وتتورد جبهته ...
أحمد يقرأ البحث عن الذات , قدوة السادات هو
أتاتورك! , يقرأ عن وعد بلفور الثاني ! , إعتراف من لايملك بمن لا يستحق .
أحمد يكره عبد الناصر , يكره السادات , يكره
نفسه ...
ويحب مني !!.
مني زميلته في الجامعة , يتحدث عنها كثيراً .
يريد أن يتقدم إليها.. ولكنه لن يفعل .
لماذا مني بالذات ؟ يقول لأنها متدينة , لأنها
محترمة , لأنها متفوقة ...
قلت له بل لأنه يستحيل أن ترتبط بها بظروفك
الحالية , لهذا فهي مناسبة جداً ! .
يوماً ما ستتزوج مني شخصاً أخر , حينها سيعيش
دور الشاب اليائس المحبط الحزين .. الحزين نعم ... إنها ماسوشية الحزن
...وهو المطلوب .
أحمد يقرأ في الفيزياء النووية رغم أنه لا
يدرسها في دراسته النظامية , يحكي لي عن نتاج تفاعل عنصر – لا أذكر اسمه –
مع عنصر أخر – قد نسيته ! - .
لا أحب هذه الأشياء ولا أفهمها لكنه يدري ما
يقول.. أعرف هذا علي الأقل .
يشاهد ما يحدث في فلسطين و يبكي هل نحن ضعفاء
لهذا الحد ؟
كان يشاهد غزو العراق , يستمع إلي الصحاف وهو
يحكي كيف أن الجيش العراقي فعل وفعل في العلوج , يقرأ قصائد مظفر النواب ..
وكأي شابٍ كان وقع سقوط بغداد عليه أليماً
شديداً ... وحينها بكي.. وبكي بصدق .
يقول لي إن مصطفي مشرفة اغتيل في أحد فنادق
فرنسا , ولم يكن يخضع لأي حماية ... كيف نترك عقلاً كهذا بلا حماية ولو
صورية ذراً للرماد في العيون ..
هل نحن بهذا الغباء ؟
قلت له لا بالطبع .. نحن أغبي من ذلك بكثير !
قال لست أمزح..
قلت له لسنا أغبياء , فينا كثير من العباقرة ,
ولكن تخيل أنك جمعت المتنبي و أبا فراس و وابن الرومي وأبا العتاهية في
سيارة واحدة ... ثم أوكلت قيادتها لأبي العلاء المعري !
قال كان أعمي البصر أليس كذلك ؟
قلت كان أعمي البصر والبصيرة ! قد كان مجموعٌ
له العَمَيَانِ !
نحن نسير في الطريق الخطأ .. هذا كل ما في
الأمر .
النخبة السياسية والثقافية والدينية التي تقود
المجتمع مجموع لها العميان ...
لهذا أرح نفسك ولا تبحث فيهم عن رجل رشيد !
أحمد في عامه الأخير في كليته وأنا في عامي
الأول في كليتي , أتاني يقول إن مادة جديدة قُررت عليهم هي الهندسة الطبية ,
وأنه لابد من اجتيازها , ويريدني أن أشرحها له !
حاولت جاهداً أن اتملص ولكن لا فكاك , ذكرني
بإحدي الروايات عندما أراد الغريب شيئا فاختار بيتاً ليطرقه ..
وكان بيت قاتل القرية !... بعد ظهور النتيجة
لماذا توترت علاقتنا بعض الشيء؟!
تزوجت مني من شاب أخر كما هو متوقع , وأُصيب
أحمد بمتلازمة الشاب العشريني , وأصبح كأي شاب مصري يحترم نفسه يكتب الشعر
الرديء والمقالات ذات الأخطاء النحوية الفادحة! .
سألني : هل تعتقد أنني سأصبح عالماً في هندسة
الصواريخ أوالفيزياء النووية ؟ قلت له إما أن ينتهي الأمر بك هكذا ... أو
ينتهي بك في أحد المعتقلات بتهمة الانضمام لتنظيم مسلح ! حاسوبك يحوي
معلومات مبالغ فيها عن الصواريخ وهذه الأمور.
أحمد الأول علي محافظته في أحدي ألعاب القوي ,
يتدرب , يشتري مراجع هندسية ويقرأ , يحب تفاعل العناصر ويعشق بارود
الصواريخ , يشاهد ما يحدث من حوله وينفعل , يكتب الشعر الرديء والمقالات
ذات الأخطاء النحوية القاتلة ...شابٌ تجري الدماء في عروقه وتكاد تنفجر في
وجهك .
مرت أعوام لم أر فيها صديقي الذي كان شعلة من
النشاط في كل شيء ,وكان زواجه منذ عام تقريبا كما سمعت , اليوم قابلته
ولكنه تغير كثيراً...
انطفأت جذوته , ترك الرياضة منذ فترة وترهل
جسده , بدأ ينمو له هذا الورم السرطاني الخبيث الذي يدعونه
" الكرش " , كأنه الأن في عقده السبعين! ...
أين يعمل ؟ يعمل الأن ربما في محطة كهرباء ,
او يقف علي خط إنتاج أحد الأجهزة الكهربائية ...
أين ذهبت مشروعاته ؟ أدراج الرياح .. إنه حتي
لايذكر شيئا عن هذه الأمور...
أحمد ينتظر مولوده الأول , لم يعد يعنيه تفاعل
الذرات ,ولا الصواريخ بعيدة المدي , ولا ما يحدث في فلسطين , ولاما يحدث
خارج شقته ! فقط يعود لينام ليستيقظ ليذهب إلي العمل ..وهكذا ..
كل ما يعنيه الأن هو ارتفاع أسعار الزيت ,
ومتي سنتخفض أسعار اللحوم ؟ ...
ينظر لمن يحدثه بحماسة عن المستقبل نظرة
الخبير الذي جرب كل شيء , ويبتسم ابتسامه باهتة ويمضي .
لقد ماتت أحلام أحمد , وأحلام كثيرين مثله ,
ربما قتلتها أسرته , أو وأدها مجتمعه , أو انسحب هو من كل شيء..
كل ما أدريه أنها قصة مأساوية إلي حد بعيد
ومتكررة إلي حد مقلق.
بقلم:
د\ محمود
الغول